أين أبناؤك‏ًَ؟

رُوِيَ أنَّهُ ذاتَ يومٍ دخَلَ عدي بنُ حاتمٍ على مُعاويةَ بنَ أبي سفيانِ فسألَهُ معاويةُ: "أينَ الطَّرُفاتِ"؟ أيْ أبناؤه طرِيف وطارِف وطَرْفةَ.

فأجَابَ عديّ: "قُتِلُوا يومَ صِفِّينَ بينَ يدي عليِّ بنِ أبي طالبٍ عليه السلام ".

فسَخِرَ معاويةُ قائلاً: "ما أنْصفَكَ ابنُ أبي طالبٍ إذ قدَّمَ بَنِيْك وأخَّرَ بَنِيْهُ".


12


عِنْدَهَا أجابَه عديّ: "بلْ أنا ما أَنْصفتُ عليَّاً، إذْ قُتِلَ وبقيتُ".

فالتفَتَ معاويةُ لجواب عدي وقالَ لهُ: صِفْ لي عليَّاً، فقالَ عديّ: "إنْ رأيْتَ أنْ تعفِيني"، فأصرَّ معاويةُ على طلبِهِ قائلاً: "لا أعفِيْكَ".

فراحَ عديّ يَصِفُ الإمامَ علياً عليه السلام قائلاً: "كانَ والله بعيدَ المدَى، شديدَ القُوى، يقولُ عدْلاً، ويحكمُ فصْلاً، تَنْفَجِرُ الحكمةُ مِنْ جوانبهِ، والعلْمُ مِنْ نواحِيه، يستوحشُ مِنَ الدُّنيا وزهرَتِها، ويستأَنِسُ باللَّيلِ ووحشتهِ، وكانَ والله غزِيرَ الدَّمعةِ طويلَ الفِكْرَة، يحاسبُ نفسَهَ إذا خلا، ويُقلِّبُ كفَّيْهِ على ما مضى، يعجِبُهُ من اللِّباسِ القصيرُ، ومِنَ المعاشِ الخشنُ، وكانَ فينا كأَحدِنا، يُجيبنا إذا سأَلْنَاهُ ويُدنِيْنَا إذا أتيِنَاهُ، ونحنُ معَ تَقْريبهِ لنا وقُرْبِهِ مِنَّا لا نُكِلِّمُه لهيبتِهِ، ولاَ نرفع أَعْيُننا إليه لعظمتهِ، فإنْ تبَسَّمَ


13


فعنِ اللُّؤلؤ المنْظومِ، يعظِّم أهلَ الدِّينِ ويتحبَّبُ إلى المساكينِ، لا يخافُ القويُّ ظلمَهُ ولا ييأسُ الضعيفُ من عدلِهِ. فأُقْسِمُ لو رأيتَهُ ليلةً وقدْ مثُلَ في محرابِهِ وأَرخَى اللَّيلُ سِرْبَالَهُ وغارتْ نُجومُهُ ودموُعهُ تتحادرُ على لحيتِهِ، وهوَ يتململُ تملْمُلَ السَّليمِ ويبكي بكاءَ الحزينَ فكأنِّي الآنَ أَسمعُه وهو يقولُ: يا دُنيا إليَّ تعرَّضْتِ، أمْ إليِّ أَقْبَلتِ، غُرِّيْ غيري، لا حانَ حينُكِ قد طلَّقْتُكِ ثلاثاً لا رجعةَ لي فِيكِ، فعيشُكِ حقيرٌ وخطُرك يسيرٌ، آهٍ مِنْ قلةِ الزادِ وبُعْدِ السَّفرِ ووحشةِ الطريقِ".

وعندِما سمِعَ معاويةُ هذهِ العباراتِ في حقِّ الإمامِ سالتْ دموعُه وصارَ يمسحها بكْمِّه قائلاً: "يرحمُ الله أبا الحسنِ كانَ كذلكَ" ثُمَّ سألَ عدَي: "فكيف صبرُكَ عليهِ"؟

أجَابَهُ عدي: كصبرِ مَنْ ذُبِحَ ولدُها في


14


حِجْرِها فهيَ لا ترْقأُ دمعتُها، ولا تسكُنُ عبرتُها (لا تهدأُ عن البكاء).

فسألهُ معاوية: "فكيفَ ذِكْرُكَ لَهُ؟".

عنْدَهَا أجابَهُ عديّ: "وهَلْ ترانِي أنْساهُ"؟!


15