الحجَّاج ويحيى

شَعَّتْ أَنوارُ عيدِ الأَضْحَى المباركِ في مدينةِ "واسط" بالعِرَاقِ، والنَّاسُ فِيْها فَرِحونَ مَسْرُورُونَ ابِتْهَاجاً بحلُولِ هَذا العيدِ المباركِ. وكانَ مِنْ أَهْلِ واسط رَجلٌ يُسمَّى "الشعبيُّ" قَدْ خَرَجَ صَبِيحَةَ اليومِ كَسَائِرِ أَهْلِ المدينة لِتَأْدِيَةِ صلاةِ الْعِيدِ. إِجْتَمَعَتِ النَّاسُ في المَسْجدِ وإِذْ بالشعبيِّ يَلْتقِي بالحجَّاجِ بنِ يوسفٍ الثَّقَفِيِّ فَصَليَّا مَعَاً صَلاةَ العيدِ. وَبَعْدَ


22


أَنْ فَرَغَ الشَّعْبِيُّ مِنْ صَلاَتِهِ جَاءَهُ رَجُلٌ مَبْعوثٌ مِنْ قِبَلِ الحجَّاجِ يأمُرُهُ بالذَّهابِ إِلى مَجلِسِ الأَميرِ الحجاج، فَما كانَ مِنَ الشَّعبيِّ إلاَّ أَنْ لَبَّى وذَهَبَ، فَاسْتَقْبَلَهُ الحجَّاجُ ثُمَّ قالَ لهُ: "يا شَعْبِيُّ هَذا يَومُ الأَضْحَى وَقَدْ أرَدْتُ أَنْ أُضَحِّيَ فِيْهِ بِرَجُلٍ مِنْ أهلِ العراقِ".

فَردَّ الشعبيُّ مُسْتَغْرِباً: أيُّها الأميرُ أَرَى أَنْ تَسْتَنَّ بِسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وتُضحِّيَ بِما أَمَرَ الله أَنْ يُضَحَّى بِهِ، وتَدَعَ مَا أَرَدْتَ أَنْ تَفْعَلَهُ فِيْ هَذا الْيَومِ العَظِيمِ إِلى يومٍ آخر.

فَقالَ الحجَّاجُ: "يا شعبيُّ إِنَّكَ إذا سَمِعْتَ مَا يَقولُ وَافَقْتَنِيْ عَلَى ما أُريدُ، لِكِذْبِهِ عَلى اللهِ وعَلَى رسولِهِ وإِدْخالِ الشُّبْهَةَ في الإسلامِ". إِسْتَنْكَرَ الشَّعْبِيُّ قَوْلَ الحجَّاجِ ثُمَّ أَجَابَهُ: "أَفَيَرى الأَمِيْرُ أَنْ يَعْفِيني مِنْ ذلك"؟


23


عِندهَا قَالَ الحجَّاجُ مُصِرَّاً: "لا بُدَّ مِنْهُ".

ثمَّ أَمَر بالسَّيَّافِ أَنْ يَحْضُرَ فَأَتى في اللَّحظَةِ.

قالَ الحجاجُ لَخُدَّامِهِ: "أَحْضِروا الشَّيخَ"، ولمَّا أَتوْا بِهِ فإِذا بِهِ "يحيى بنُ يعمر"، عِنْدَهَا اغْتَمَّ الشَّعْبيُّ غَمَّاً شَدِيْداً وقَالَ فِيْ نَفْسِهِ: "وأَيُّ شَيءٍ يَقُولُهُ يَحْيى مِمَّا يُوجِبُ قَتْلَهُ"!

تَوجَّهَ الحجَّاجُ إِلى يَحْيى وسَأَلَهُ: أَنْتَ تَزْعَمُ أَنَّكَ زعيمُ العراقِ؟

رَدَّ يحيى: "أنا فقيهٌ مِنْ فُقَهاءِ العراقِ".

سَألَهُ الحجَّاج: "فَمِنْ أيَنْ فُقْهُك"؟ زَعَمْتَ أنَّ الحسَنَ والحسينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رسولِ اللهِ!

قَالَ يحيى: "مَا أنَا زَاعِمٌ".

سَأَلَهُ الحجَّاجُ: "وبأيِّ حقٍّ قُلْتَهُ؟"

رَدَّ يحيى: "بكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ. "


24


َنَظرَ الحجَّاجُ إِلى الشعبيِّ وقَالَ لَهُ: "إسْمَعْ مَا يقولُ، فإِنَّ هَذا مَا لَمْ أَسْمَعهُ مِنْ قَبْلِ، أَتَعْرِفُ يا شعبيُّ فِي كتابِ اللهِ أنَّ الحسنَ والحسينَ مِنْ ذرِّيَّةِ محمدٍ رسولِ اللهِ؟

جَعلَ الشَّعبيُّ يُفكِّرُ عَمِيْقاً فِيْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدْ فِي الْقُرآنِ شَيْئاً يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ.

سَكَتَ الحجَّاجُ وفكَّرَ مَلِيّاً ثُمَّ قَالَ لِيحَيى: "لَعلَّكَ تُرِيدُ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وأَنْ رسولَ اللهِ خَرَجَ للمُباهَلةِ ومَعَهُ علي وفاطمة والحسنِ والحسينِ؟".

سُرَّ الشَّعبيُّ كَثِيراً وقالَ في نفسِهِ قَدْ خَلُصَ يَحْيى، ولَكِنَّ يَحْيى أَجَابَ الحجَّاجَ: "هَذِه الآيةُ الكريمةُ حُجّةٌ بالِغةٌ وَلكِنْ لَنْ أحْتَجَّ بها، وإنَّما


25


بِشَيءٍ آخَر".

عِنْدَهَا اصْفَرَّ وَجْهُ الحجَّاجِ وطّأطأَ بِرأْسِهِ ثُمَّ رَفَعهُ وتَوجَّهَ إِلى يَحْيى قائِلاً: "إِنْ أَنْتَ جِئْتَ بِشَيء مِنْ كِتاب الله يُثْبِتُ مَا تَقُولُ لَكَ عشرةُ آلافِ دِرْهَمٍ، وإِنْ لَمْ تَأتِ بِها فأَنا قَاْتِلُكَ وفي حِلّ مِنْ دَمِكَ".

خفَقَ قَلبُ الشَّعْبيِّ خَوفاً لِمَا سَمِعَ مِنَ الْحَجَّاجِ واغْتَمَّ لِمصيرِ يَحْيى الَّذي يمكن أَن يُقْتَلَ، فَقَالَ فِيْ نَفْسِهِ: أَمَا كَانَ يَكْفِي يَحْيَى آيةُ المباهلةِ الَّتِي قَرَأَهَا الْحجَّاجُ حتَّى يَخْلُصَ مِنْهُ"؟

بَدَأَ يَحْيَى بِالْكَلامِ البليغِ قَائِلاً للحجَّاجِ قَوْلَه تَعالى: "﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ، من عنى بذلك"؟

رَدَّ عَليْهِ الحجَّاجُ: "إبراهيمُ عليهِ السلامُ".

فَسَأَلَهُ يَحْيَى: "فَداوودُ وسليمانُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؟".


26


أجابَهُ الحجَّاجَ: "نَعَمْ."

قَالَ يَحْيَى: "وَمَنْ نَصَّ اللهُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذا أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؟"

فَتَلَا الحَجَّاجُ الآيةَ الكريمةِ: ﴿وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.

قالَ يَحْيى: "وَمَنْ؟"

فَرَدَّ الحجَّاجُ: "وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى."

ثُمَّ سَأَلَهُ يَحْيَى: "وَمِنْ أَيْنَ كَانَ عِيْسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيْمَ عَلِيْهِ السَّلامُ وَلاَ أبَ لهُ"؟

فَأَجابَهُ الحجَّاجُ: "مِنْ أُمِّهِ مَرْيَمَ عليها السلام ".

حِيْنَها قَالَ لَهُ يَحْيى: "فَمَنْ أَقْرَبُ، مَرْيَمُ مِنْ إِبْرَاهِيْمَ أَمْ فَاطِمَةُ مِنْ مُحمَّدٍ؟ وَعِيْسى مِنْ إِبْرَاهِيْمَ أَمْ الحسنُ والحسينُ عليه السلام مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم؟"

عِنْدَهَا سَكَتَ الحجَّاجُ غَاضِباً لِهَذا الْمَوقِفِ وَلَمْ


27


يَعْرِفْ مَا يقُولُ والخيبةُ والبهتان يمْلآنِ وَجْهَهُ، فأَمَرَ خُدَّامَهُ قَائِلاً: "أَطْلِقُوهُ قَبَّحَهُ اللهُ، وادْفَعُوا إِلَيْهِ عَشْرَة أَلْافَ دِرْهَمٍ لاَ بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيْهَا".

ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّعْبِيِّ يَقولُ لَهُ: "قَدْ كَانَ رَأْيُكَ صَوَاباً ولَكِنَّا أَبَينَاهُ".

ولَمْ يَتلفَّظْ بَعْدَها الحجَّاجُ بكلمةٍ واحدةٍ وانْتَهَتِ الْمُحَاجَجَةُ بالدَّليلِ والبُرْهَانِ القاطعِ ونُصْرَةِ الحقِّ المبين.


28