في مجلسِ الخليفةِ

عاشَ الخليفةُ المتوكِّلُ هاجسَ وقلقَ زوالِ حُكْمِهِ، فكَانَ يَحْذَرُ ويخافُ مِنَ الإمامِ الهادي عليه السلام وحبِّ الناس لهُ.

وكانَ الوشاةُ المُحِيطِونَ باْلِخَلِيْفَةِ المتوكِّلِ يُشعِلونَ الفِتْنَةَ ويَزيدونَ مِنْ قلقِ المتوكِّلِ أَكثَر بالْوَسْوَسَةِ لَهُ أَنَّ الإمامَ عليه السلام يَسْعَى لِلْإِطَاحَةِ بالحُكمِ. وعَلَى هَذَا الأَساسِ بَنَوُا افْتِرَاءَاتِهِمْ بِأنَّ


32


الإمامَ عليه السلام يجمع أسلحةً مُدَّخَرَةً فِي دَارِهِ ممَّا دَفَعَ بالمتوكِّلِ إِلى تَفْتِيْشِ بَيْتِ الإمامِ عليه السلام.

وَفِيْ لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ والسُّكونُ فِيْها يَعُمُّ أَرْجَاءَ البَلْدةِ، والنَّومُ يغشو أَبْصارَ النَّاسِ، أَرِسَلَ المُتْوكِّلُ رجَالَهُ إِلى دَارِ الإمامِ عليه السلام فِيْ مهْمَّةِ تَفْتِيْشِ الدَّارِ وإحضارِ الإمامِ عليه السلام إلى مجلسِ الخليفةِ.

إِقْتَحَمُوا الدارَ ودَخَلُوا على الإمامِ عليه السلام فإِذَا هُوَ مَشْغُولٌ بِعبادةِ اللهِ الواحدِ، يُنَاجِيْهِ ويَدْعُوهُ وَلاَ يُلْهِيْهِ عَنْ ذِكْرِهِ لاَهٍ. فَتَّشوُا الدَّارَ ولمَّا لَمْ يجِدُوا شَيْئاً أَخَذُوا الإِمامَ عليه السلام وأَحْضَرُوهُ إلى المتوكَّلِ.

دَخَلَ الإمامُ عليه السلام مَجْلسَ الخليْفَةِ المتوكِّلِ فوجده ثَمِلاً قَدْ أَثْقَلَتْهُ كَثْرَةُ الخَمْرِ ومُنَاجَاةُ غوانِيْهِ وندمائِهِ، فأَمَرَ خُدَّامَهُ بإِجْلاَسِ الإمامِ عليه السلام إلى جانِبهِ، وإِذْ بالمُتوكِّلِ يُقدِّم للإمامِ عليه السلام خَمْراً فَامتَنَعَ الإمامُ عليه السلام ورفضَ. قَبِلَ المتوكِّلُ الاعْتِذَارَ


33


شَرْطَ أَنْ يٌُنْشِدَ الإمامُ عليه السلام شِعْراً غَزَلِيَّاً وَلكِنَّ الإمامَ عليه السلام إعتذرَ أيضاً، فَبادَرَهُ المتوكِّلُ بَرفْضِ الاعتذارِ عِنْدَهَا راحَ الإمامُ عليه السلام يُنشِدُ هذِهِ الأبياتَ:

بَاتوا عَلى قللِ الأجبالِ تَحْرُسُهُمْ***غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القِلَلُ

واستُنْزِلُوا بَعدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ***وأُنْزِلُوا حُفَراً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا

نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعدِ مَا دُفِنُوا***أَيْنَ الأَسَاوِرُ والتِّيجَانُ والحُلَلُ

فَأَفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ***تِلْكَ الوجُوُهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقَتتِلُ

قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْراً وَمَا شَرِبُوا***فَأَصْبَحُوا بَعْدَ ذَاْكَ الأَكلِ قَدْ أُكلوا


34


وعِنْدَمَا انْتَهَى الإِمَامُ عليه السلام مِنْ إِنْشَاد هَذِهِ الأبياتِ، صَحَا المُتَوكِّلُ مِنْ سَكْرَتِهِ وَسَاْلَتْ دُمُوعُهُ عَلَى خدَّيْهِ طَالِباً العَفْوَ والصَّفْحَ مِنَ الإمامِ عليه السلام.

وبهذِهِ النَّدامَةِ انْفَضَّ مَجْلِسُ الخَلِيْفَةِ لِيَتغَلَّبَ نورُ الحقِّ عَلى ضَلاَلِ الباطلِ.


35