مهاجرو الحبشة

كانَ أهلُ قُرَيْشٍ أهلَ جَاهليَّةٍ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ والأَوْثَانَ، يقْضُونَ أَوْقَاتَهُم باللَّهوِ وَشُرْبِ الخَمْرِ ومُنَادَمَةِ الجَوارِيْ، إِلَى أَنْ جَاءَ النَّبيُّ محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم بِدعْوةِ الإِسلامِ، فَاسْتَجَابَ بعض النَّاس لِدَعوةِ الرَّسولِ الأَكْرَمِ صلى الله عليه وآله وسلم وَاعْتَنَقُوا الدِّيْنَ الإِسلاميَّ بِعَقِيْدَتِهِ الحقَّةِ، يَتَعَلَّمُونَ أَحْكَامَهُ، وَيتَّبِعوُنَ تَعَالِيْمَهُ حتَّى ازْدَادَ عَدَدَهُمْ فِيْ قريشٍ لأنَّهُمْ اجِتَهَدُوا في نشرِ دَعْوَةِ الإسلامِ عَلَى نِطاقٍ واسِعٍ.


40


رَفَضَ القُرَشِيِّونَ الجَاهِليِّونَ دَعوةَ النبيِّ الأكرمِ صلى الله عليه وآله وسلم وَانْزَعَجُوا مِنْ نَشْرِ المُسْلِمينَ لِدَعوةِ الإسلامِ، فَصَارُوا يُضيِّقُونَ عَلَيْهِمْ وَيُعَذِّبُونهُم وَيَضْطَّهِدُونهُمْ بِهَدِفِ صَدِّهِمْ عَنْ الدِّينِ الإسلاميِّ، لَكِنَّ المُسْلِمينَ اعْتَنَقُوا الدِّينَ الإسلاميَّ عَنْ عقيدةٍ صادقةٍ هِيَ أَقْوَى مِنْ سِياطِ القُرشِيِّينَ، فَلَمْ يَتَخلَّوا عِنْ دِينِهِمْ وَتَحَمَّلُوا العَذَابَ الَّذي تعرَّضُوا له.

تَأَذَّى النبيُّ محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم من حالِ المُسْلِمينَ فَرأى أنَّ الهِجْرَةَ هِيَ السبيلُ للنَّجاةِ مَنْ ظُلْمِ القُرَشِيَّينَ، فأمَرَ المُسْلِمينَ بِالهِجْرَةِ إلى الحبشةِ والَّتي كانَ أَهْلُهَا آنذاكَ يَعْتنقُونَ الدِّينَ المسيحيَّ، ويَخْضَعُونَ لِحُكمِ النَّجاشيِّ الَّذي كانَ رجُلاً عادِلاً حاكِماً بِحَقِّ شَعْبهِ. إرتَاحَ المسلِمُونَ لاسْتِقْرَارِهِمْ فِي الحَبشةِ بِحيثُ إنَّهُمْ استَطَاعُوا إِحْيَاءَ شَعَائِرِهِمْ بِحرُيَّةٍ.

لمْ تَهْدأْ قُرَيْشٌ ولمْ تَسْتَقِر وعَاشَتْ خوفَ وهاجِسَ انْتشارِ نفوذِ الإسلامِ في الحبشةِ، فاجْتمعُوا


41


فِيْما بَيْنَهُم وتَشَاوَرُوا في إِيجادِ طريقةٍ لإخراجِ المُسْلِمينَ مِنَ الحَبَشَةِ وَرَدِّهِمْ إِلى مكَّةَ للسَّيطرةِ عَلَيْهم ومَنْعِ انْتِشَارِ دِيْنِهِم.

بعْدَ هَذِهِ المُشَاوَرَاتِ عَزَمَ القُرَشِيُّونَ على إِرْسَالِ رجُليْنِ إِلى الحاكِمِ النَّجاشيِّ في مُهمَّةِ إِخْرَاجِ المُسْلِمينَ مَنَ الحَبَشةِ عبْر التَّحْرَيضِ عليهم.

حملَ هذان الرجلان مَعَهُما الهَدَايا بهَدَفِ اسْتِرضَاءِ الحَاكِمِ والبَطارِقةِ.

وعِنْدَما وصلا اجْتمعا أوَّلاً بالبَطارِقةِ المَسيحيِّينَ وقدَّمَا لِكُلِّ بَطْرِيقٍ هَدِيَّةً وَتَحَدَّثَا مَعَهُم بشأنِ المُسْلِمينَ المهاجرينَ قائِلَيْن لَهُمْ: "أَطْلِعُوا الحاكمَ النَّجاشيَّ أَنَّهُ دَخَلَ إِلى بِلاَدِهِ غُلْمان قُرَشِيَّونَ سُفَهَاء، قدْ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ واعْتَنَقُوا دِيناً مِبْتَدَعاً، ثُمَّ إِنَّهُمْ لنْ يَدْخُلُوا في دينٍ آخرٍ، وقد بعثنا أَشْرافُ قُرَيْشٍ لِنَرُدَّهُم، فأشيروا على الحاكمِ النَّجاشيِّ بتَسْلِيمِهِم لَنَا".


42


فأَعطى البطارقة عهداً للرَّجُلَينِ بتأيْيدهِما فِي مجلسِ النَّجاشيِّ عَلى إِخراجِ المُسلِمينَ المهاجرينَ الى الحبشةِ وتَسْلِيمهِم لَهُما.

ولمَّا وَصَلَ الخبرُ إِلى النَّجاشيِّ قرَّرَ الاجتماعَ بالمهاجرينَ المسلمينَ للاسْتماعِ إِلى قولِهِمْ. ولما عرفَ المُسلِمون المهاجرونَ بأَمرِ المجلسِ قرَّرُوا قَوْلَ الحق والتَّعريفِ بدينهم الَّذي يحملُ أَسْمى مَعَانِي الوَرَعِ والتَّقْوَى والأَخْلاقِ وفِيْهِ الصَّلاحُ والإِصْلاَحُ للنَّفسِ والأُمَّةِ.

إجْتمعَ مجلسُ النَّجاشيِّ بِحضُورِ رجالِ الدَّولةِ، وعُلَماءِ الدِّينِ المسيحيّ الَّذينَ كانوا يحملونَ مَعَهُم كُتُبهم المقدَّسةِ. وبِهَذا الجَمْعِ اجْتَمَعتِ المراسمُ الدِينيِّةُ والمراسمُ الملكيَّةُ معاً لِتُعْطِيَ عَظَمةً لِمَجْلِسِ النَّجاشيِّ.

إسْتَدْعَى النَّجاشيُّ المُسلمينَ وفِي المُقَدِّمةِ جَعْفرُ بنُ أبي طالبٍ (رض). دَخلُوا المجلسَ بِراحةٍ


43


واطمئنانٍ ولمْ يخْشَوا هيبةَ المجلسِ وعظمته. وكانَ مِنَ المعروفِ آنذاك أنَّهُ مَنْ يدخلْ مجلسَ الملوكِ عَليهِ أنْ يِؤدِّيَ فروضَ الطَّاعةِ ويُبْدِيَ الخُضوعَ ثُمَّ ينحنيَ لِتَقْبيلِ الأرضِ أَمامَ الملكِ أوِ الحاكمِ.

إنْدهشَ الحاضرُونَ مَنْ إِباءِ المُسْلَمينِ وعدم خضوعهم في المجلسِ فراحُوا يتهامسُونَ مُنتقدِينَ إياهم، عِنْدَها بادَرَ المسلمُونَ إلى القولِ: "إنَّ دِيننا الَّذي لُذْنَا بِسَببِهِ إِلى هُنَا لا يُبِيحُ لنَا السُّجودُ لغيرِ الله الواحدِ الأحدِ".

فسَأَلَهُم النَّجاشيُّ: "ما هَذا الدِّينُ الَّذي فَارقْتُم قَوْمَكُم مِنْ أَجْلِهِ وَلَمْ تَدْخلُوا فِي سِواه مِنَ الأديان"؟

أجَابَهُ جعفرُ بنُ أبي طالبٍ (رض): "أيُّها الملكُ كُنَّا قَوْماً أهْلَ جَاهِليَّةٍ، نعبدُ الأَصْنَامَ ونأكلُ الميْتةَ، نأتِي الفواحشَ ونقطعُ الأَرحامَ، ونُسيء الجِوَارَ


44


ويأكلُ القويُّ مِنَّا الضعيفَ، وكُنَّا على ذَلِكَ حتَّى بعثَ الله إِليْنَا رسولاً مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وصِدْقَهُ وأَمَانَتَهُ وعفَافَهُ فدَعانَا لتوحيدِ الله وعبادتِهِ وأنْ نَهْجُرَ ما كُنَّا نعبدُ نحنُ وآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارةِ والأَوْثانِ، وأَمَرَنا بِصدْقِ الحديثِ وأَدَاءِ الأَمَانةِ، وصِلَةِ الرَّحمِ وحُسْنِ الجِوارِ والكفِّ عن المحارمِ والدِّماءِ، ونَهَاناَ عن الفواحشِ وقَوْلِ الزُّورِ وأكْلِ مالِ اليتيمِ وقذفِ المُحْصناتِ، وأَمَرَنا أنْ نَعْبُدَ الله لاَ نُشْرِكُ بِهِ شيئاً، وأَمَرَنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ، فصدَّقْناهُ وآمنَّا بِهِ، واتَّبعْنَاهُ علَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الله. فَحَاربَنا قَوْمُنَا وفَتَنُونَا عَنْ دِيننَا لِيرُدُّونَا إِلى عبادةِ الأوثانِ، فلمَّا قَهَرونَا وضيَّقُوا عليْنَا لُذْنَا بِبِلادِكَ ونَرْجُو أنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أيُّها الملكُ".

وعِندما انْتَهى جعفرُ بنُ أبي طالبٍ منْ كَلاَمِهِ قالَ لهُ النَّجاشيُّ: "هلْ مَعَكَ ممَّا جاءَ بِهِ نبيُّكُم عِنِ الله مِنْ شي‏ءٍ؟".


45


أجَابَه جعفرٌ: "نعم".

فقالَ لهُ النَّجاشيُّ: "إِقرأْ عليَّ".

وكَانَ جعفرٌ رجُلاً ذكيَّاً ونبيهاً فراحَ يقرأُ سورة مريمَ عليها السلام الَّتي تتحدَّثُ عنِ السَّيدةِ مريمَ والنبيِّ عِيسَى ويحْيى وزَكرِيَّا عليه السلام، لِيُبيِّنَ للمسيحيِّينَ أنَّ القُرآنَ الكريمَ عظّمَ وقدَّسَ السَّيدةَ مريمَ والنبيَّ عيْسى عليه السلام وذكر أنهما كانَا عبْدَينِ صالِحَينِ مِنْ عباد الله عزَّ وجلَّ يُوحِّدانِهُ ويُقرَّانِ بعبادَتِهِ.

وَعنْدَما سَمِعَ النَّجاشيُّ كلامَ جعفرٍ هَاجَتْ أَحْزانُهُ وبَكَى هوَ ومَنْ مَعَهُ في المجلسِ ثُمَّ قَالَ للرَّجُلَينِ القُرَشِيَّينِ: "إنَّ هذا والَّذيْ جَاءَ بِه عَيسىَ لَيَخرُجَ مِنْ مشكاةٍ واحدةٍ، إِذْهَبا فَلاَ والله لاَ أُسَلِّمُهُم إَليْكُما".

وبَعْدَها اعْتَنَقَ النَّجاشيُّ الدِّينَ الإسلاميَّ وصارَ مُسْلِماً مُؤمِناً مُوَحِّداً للهِ عزَّ وجلَّ عَابِداً خاضِعاً خَاشِعاً لَهُ وَحْدَهُ لاَ شريكَ لهُ حتَّى تُوفِّيَ في العامِ التَّاسعِ للِهْجرة.


46